مولده ونشأته
ولــد محمد العربي بن مهيدي سنة 1923 بدوار الكواهي ،ضواحي عين مليلة ولاية أم البواقي حاليا ،والده عبد الرحمان بن مسعود بن مهيدي وأمه قاضي عائشة بنت حمو، كان ثاني إخوته ،إذ كان له ثلاث أخوات وأخ واحد هو محمد الطاهر الذي استشهد في 28 جانفي 1957 بوادي الزهور ناحية القل التي كانت نظاميا تتبع الولاية الثانية '' الشمال القسنطيني '' توفي أبوه في جوان من سنة 1959 ببسكرة ،أما أمه فقد عاشت إلى ما بعد استرجاع الاستقلال لتتوفى سنة 1991 .
وبخصوص عائلته الكريمة فهي تنتسب إلى قبيلة‹ المهايدية › من عرش أولاد دراج التي تنتشر فروعها في ضواحي المسيلة ،وتذهب بعض الروايات إلى أن فرعا منها انتقل إلى عين مليلة فاستقر بها وأسس احد أفرادها الأولين في حوالي القرن العاشر ميلادي زاوية بالكواهي
نشأته وتعليمه
عرفت عائلة محمد العربي بن مهيدي بتمسكها بالدين والأخلاق الإسلامية ومحافظتها على التقاليد الوطنية ومحبتها لأهل العلم والمعرفة وعنايتها بتحفيظ القرآن الكريم لأبناء القرية، إذ يذكر الذين يعرفون هذه العائلة أنها خصصت معلما على نفقتها لهذه المهمة ،وتكفلت بتأمين شؤون حياته الاجتماعية، وليس غريبا على عائلة تمجد العلم والمعرفة أن يكون من بين أفرادها من يمارس القضاء، إذ كان جده مسعود قاضيا وصاحب وظيفـــة يحتكــم إليه الناس، أما أبـــوه فقد كان مهتما بالنشــاط الصناعـــي " الحرفي " والتجاري ،إذ يذكر من يعرفونه بأنه انشأ مصنعا للتبغ بالخروب، لكنه لم يستمر فيه طويلا لأن الإدارة الاستعمارية ضايقته وأرهقته بالضرائب مما دفعه إلى بيع المصنع .
في هذا الوسط الاجتماعي نشأ محمد بن مهيدي ،وقد حرص والده على تربيته تربية صالحة ،وخصه بالتوجيه السليم وكان من الطبيعي في هذه البيئة التي ترعرع فيها أن يتوق والده إلى إدخاله الكتاب ليحفظ شيئا من القرآن الكريم ،ويتعلم أصول الكتابة العربية كبقية أبناء بلدته، وقد التحق فعلا بالكتاب وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم قبل أن ينتسب إلى المدرسة الفرنسية ،وبعد أن أصبح مهيئا للتعلم المدني ادخله أبوه إلى المدرسة الفرنسية ليكتسب شيئا من العلم الذي يفيده في حياته ويهيئه لفهم طبيعة الحياة الاجتماعية ،وممارسة النشاط الذي يجعله قادرا على تدبير أموره بنفسه، ونظرا للضائقة الاقتصادية التي كان عليها والده لم يتمكن أبوه من تسجيله في مدرسة عين مليلة لبعدها عن مقر سكناه ،هذا ما دفعه إلى نقله إلى باتنة عند خاله قاضي مسعود لمتابعة دراسته هناك .يحكى أن خاله هذا لم يكن له أولاد لذلك اعتبره بمثابة ابنه فرعاه ومكنه من مزاولة دراستــه،وفي سنــة 1931 لتحق بمدرســة العمراني le collège colonial de Batna سابقا، واستمر بها إلى أن تحصل على الشهادة الابتدائية بدرجة امتياز ،وعلى الرغم من بعد المسافة عن مقر العائلة في عين مليلة ،لم ينقطع عن زيارة عائلته أسبوعيا
وبعد أن أنهى دراسته بباتنة عاد مرة أخرى إلى مسقط رأسه بدوار الكواهي لكن الظروف الصعبة التي كانت تحيط بنشاط الأب ومستقبل عائلته جعلت هذا الأخير يفكر في الانتقال إلى بسكرة لأنه رأى أن إقامته بالقرية لا يمكن أن تحقق لأبنائه تعليما مفيدا ومستقبلا زاهرا خصوصا بعد أن أصبح عاطلا عن العمل وقد فكر في جعل مدينة بسكرة محط الرحال نظرا لما كانت تزخر به من حركة علمية وثقافية وإصلاحية التي أسسها الإمام عبد الحميد بن باديس ونشطتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وكان انتقاله إلى بسكرة سنة 1936 العام الذي انعقد فيه المؤتمر الإسلامي الذي أوفد إلى فرنسا وفدا للمطالبة بالحقوق التي ظلت حبرا على ورق
إن انتقال عائلة بن مهيدي إلى بسكرة قد وفر للأب وأولاده جوا ملائما نظرا لاستقرار عدد لا بأس به من العلماء المدرسين بها .
فبحي الجوالة نزلت أسرته بدار عائلة بوهو أحمد "أحميدة "، ثم انتقلت سنة 1940 إلى حي الكهرباء بدار الطيب خملة ،وفي الأخير استقرت بدار الشيخ المختار قرب مركز البريد وذلك سنة 1941 وقد تمكن محمد العربي أثناءها من متابعة دراسته في القسم الإعدادي بمدرسة العمودي لافيجري سابقا ،وفي الوقت نفسه كان يتابع دروسه باللغة العربية في المدرسة الحرة وقد كانت آماله الكبيرة في مواصلة تعليمه ، الأمر الذي دفع به إلى الاشتراك في عدة مسابقات منها مسابقة الدخول للثانوية ،ومسابقة الالتحاق بمدرسة المعلمين ،لكنه لم يوفق لان شروط المسابقات ومقاييسها في تلك الفترة لم تكن تخضع في كل الأحوال إلى الكفاءة والاستحقاق، بل إلى اعتبارات أخرى لا تدركها إلا سلطات الإدارة الاستعمارية، وان حصل ووفق في بعض منها حالت ظروفه المادية والاجتماعية دون مواصلة مشواره التعليمي .
وفي سنة 1942 توفي المدرس الذي كان يلقنه دروس اللغة العربية في الوقت الذي كان فيه محمد العربي ورفاقه مستعدين للمسابقات المشار إليها سابقا
وحرصا من الوالد على استمرار ابنه في تلقي دروس اللغة العربية طلب من المدرس علي مرحوم تخصيص حصص تعليمية في اللغة العربية لابنه في المنزل، ولم يتردد هذا الأخير في تلبية طلب الوالد الذي كان ينتظر منه أن يعنى بتعليم ولده وتلقينه المعارف الأساسية التي تحفظ له شخصيته وتهيئه لما ينتظر منه .
ومع مرور الوقت توطدت الصلة بين المدرس ومحمد العربي إلى أن وصلت إلى المصاهرة،ولم تقتصر الدروس التي كان يقدمها علي مرحوم على اللغة العربية وقواعدها بل تجاوزتها لتشمل مواضيع التربية الإسلامية والأخلاق الوطنية والسياسية أيضا .
التحق محمد العربي بن مهيدي رفقة مجموعة كبيرة من شباب بلدة بسكرة بمقاعد هذه المدرسة لتلقي دروس اللغة العربية، وأصول الدين الإسلامي ،والأخلاق والتاريخ على يد الشيخ المربي السماتي محمد العابد الجيلالي .تأسست هذه المدرسة سنة 1943
جوانب خفية من شخصيته
إن التربية الوطنية والدينية الصحيحة لبن مهيدي جعلته يعرف أن الإنسان يتكون من روح وجسد ومشاعر وعقل ،ولهذا فلم يهمل أي جانب من هذه الجوانب .كان ملتزما بواجباته الدينية والوطنية إلا أن هذا لم يمنعه من حب الفن فكان يهوى أغاني المطربة فضيلة الجزائرية وكأنه يطبق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " روحوا عن أنفسكم ساعة بساعة " وكان يحب الموسيقى خاصة الأندلسية منها ،مما جعله عطوفا حنونا،وكان يكثر من مشاهدة الأفلام الحربية والثورية كالفلم الذي يدور محتواه حول الثائر المكسيكي زاباتا ً Zapata ،فاتخذ هذا الاسم كلقب سري له قبل اندلاع الثورة مثلما كان يلقب أيضا بالعربي البسكري والحكيم ،وكان حب بن مهيدي للسينما هو إدراك منه لأهميتها في المستقبل وكأنه كان يعلم بأن من يسيطر عليها يسمح له بنشر أفكاره وقيمه الحضارية والدينية مثلما تفعل أوروبا وأمريكا اليوم
وكان ابن مهيدي يهوى المسرح والتمثيل،فقد مثل في مسرحية "في سبيل التاج " التي ترجمها إلى العربية الأديب لطفي المنفلوطي وكانت مسرحية مقتبسة بطابع جـزائري يستهدف المقتبس مــن خلالها نشر الفكرة الوطنيـــة والجهاد ضد الاستعمار ،وقد منع الاستعمار الفرنسي تمثيل هذه المسرحية لما كن لها من تأثير كبير في نشر الوعي الوطني والثوري
وكان ابن مهيدي لاعبا في كرة القدم ،فكان أحد المدافعين الأساسيين في فريق الاتحاد الرياضي الإسلامي لبسكرة الذي أنشأته الحركة الوطنية كوسيلة لتربية الشباب على روح الوطنية ،ونشر الوعي الوطني بواسطتها في صفوف الشعب
استشهاده
اتفقت لجنة التنسيق والتنفيذ على إعلان إضراب عام لمدة ثمانية أيام في بداية عام 1957 بهدف الإظهار للعالم أن الشعب الجزائري يريد الاستقلال ويقف إلى جانب الثورة والجيش وجبهة التحرير الوطنية وذلك عشية انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعرفت هذه المرحلة من معركة الجزائر استشهاد واعتقال الكثير من الأبطال، وكان منهم العربي بن مهيدي الذي القي عليه القبض المضليون الاستعماريون .وهو يقوم بمعركة الجزائر. ففرح الجيش الفرنسي بذلك لأنه ألقى القبض على اخطر رجل على الاستعمار آنذاك. ففي ضل الزهو والافتخار أمام العالم أرادت أن تظهر هذا الأسير للصحافة العالمية، وبهدف تحطيم معنويات المجاهدين لكن صورته ضلت تبتسم مخترقة الاستعمار التي رفعت معنويات الثوار أكثر.
وعندما سأله احد الصحافيين لما يضعون القنابل في القفف لتنفجر في وجه جيش الاستعمار وأذنابه من المعمرين الذين يمتصون عرق الشعب الجزائري أجابه بذكاء خارق للعادة "أعطونا طائراتكم ومدافعكم نعطيكم قففنا " إشارة منه إلى استعمال الاستعمار لأبشع الأسلحة من قنابل ضد الشعب الأعزل وختم قوله للفرنسيين الاستعماريين " إنكم ستهزمون لأنكم لم تعودو تؤمنون بشيء ...إنكم تمثلون الماضي ...أما نحن فنمثل المستقبل ...لئن مت فإن هناك آلاف الجزائريين سيأتون بعدي لمواصلة الكفاح من اجل عقيدتنا ووطننا " فكان ابن مهيدي محقا في ذلك فتحررت الجزائر بعد أن أعطت مليون ونصف من الشهداء. أما ابن مهيدي فقد عذب اشد العذاب لأنه العارف بكل أسرار الثورة لكنه لم يبح ولو بكلمة واحدة. ومن أنواع العذاب الذي عرفه سلخ جلدة رأسه كما وضعوا في فمه قضيبا من حديد في أقصى درجات الاحمرار بالإضافة إلى عذاب تقشعر له الأبدان ولا يمكن أن يتصوره إنسان. لكن بقي ابن مهيدي صامدا يثبته في ذلك إيمانه الشديد بالله وبالوطن حتى استشهد دون أن يقول شيئا عن أسرار الثورة بل بقي شعلة صامدة تنير الطريق للأجيال القادمة، وقد كان يوم 4 مارس 1957 الموافق لأول شعبان 1377 آخر يوم لشاب لاح كالنجم في سادة الجزائر تاركا نوره لمن وراءه يستنير به ،ولفض أنفاسه الأخيرة تاركا وراءه سجلا حافلا بالبطولات القاهرة.
إرسال تعليق